مقالات مختارة

الرئيس القوي.. لا مكان للتعب في المعارك المفتوحة!

منار صباغ | اعلامية لبنانية

بالطريق الى قصر بعبدا تزاحمت في رأسي
الذكريات. بعضها عاد بي الى اليوم الذي غادر فيه الرئيس العماد اميل لحود القصر عند منتصف الليلة الاخيرة من انتهاء ولايته. ولا يختلف اثنان على فظاعة وصعوبة ما تعرض له الرجل من حملات وضغوط تقاطعت مع احداث كان من اخطرها اغتيال الرئيس الحريري عام ٢٠٠٥ وعدوان تموز عام ٢٠٠٦. لم يمتلك الرئيس لحود كتلة نيابية، وكتلته الوزارية على تواضعها انقلبت عليه ما عدا الوزير الوفي يعقوب الصراف. ومع ذلك لم يترك الرئيس لحود موقعه الا حين انتهاء ولايته. فما طال موقع الرئاسة الاولى بعد اتفاق الطائف، لم يصل الى الحد الذي يمنع شاغل الموقع من ممارسة تأثيره الخاص، الذي يمكّنه من رسم الحدود التي يريد داخل مربع اللعبة السياسية المعقدة في لبنان.

فعلاً لا استطيع ان امنع نفسي من الضحك، حينما اسمع من يدعو الرئيس عون الى التنحي او الاستقالة او الرحيل وفق موضة المطبلين لما سمّي زورًا بالربيع العربي. الرئيس عون، وهو اول رئيس ممثل بصورة حقيقية لشارعه، المستند الى كتلة نيابية وازنة وتحالف سياسي متين، يفترض ان يتنحى ويرحل! فعلًا هذه هي النكتة السمجة او لعلها الاستجابة الغبية لأوامر الباب العالي في عوكر!

هذا ليس برأي سياسي. بل هي الواقعية بعيدًا حتى عن المحاباة لو حضرت. هل يحلم هؤلاء بأن يفعل العماد عون ما لم يفعله الرئيس لحود، وهو من لم يمتلك شيئًا مما يمتلكه الجنرال اليوم؟
بين الموقع وشخصية من يشغل هذا الموقع وحيثيته معادلة لا يمكن تخطيها، معادلة لم امنع نفسي من التفكير بها وانا ادخل الى مكتب الرئيس عون في قصر بعبدا، وهي ليست المرة الاولى.

على عادته لا يتغير، كما كان يفعل تمامًا في الرابية، لكن مع مراعاة البروتوكول الرئاسي يستقبلك عند الباب، بابتسامته ويد في جيبه، ومحبة للزائر لا يخفيها ان وجدت.

غريب فعلاً جنرالنا الرئيس. قلت في نفسي: من أين يأتي بهذا النشاط!؟ ما هو هذا السر؟ اذكر قبل ايام من انتخابه رئيساً انه استقبلني عند قرابة السادسة والنصف صباحاً ولم اكن الموعد الاول في هذا النهار.

الرجل اصبح اليوم بالنصف الاول مما بعد الثمانين من العمر. ونحن من يفترض اننا في عمر الشباب اذا شاركنا مثلاً بجلسة او ثلاث في اليوم لأمور تتعلق بعملنا نتأفف ونتعب .من أين يأتي بهذه الطاقة؟

نهار الجنرال يبدأ باكراً. مواعيده كثيرة ومبادراته اكثر لسد الفراغ الحاصل نتيجة تخلي كثر من المعنيين عن القيام بواجباتهم.

“ليست من واجباتي ولكن لا يمكن ان اقف متفرجاً” يؤكد الرئيس عون. “الامن، الدفاع، الغذاء، الدواء، المحروقات، حتى قضية الخبز اتابعها. أحاول سد الفراغ الحاصل نتيجة استنكاف الرئيس دياب عن تصريف الاعمال او عقد جلسات ضرورية للحكومة”.

المرحلة صعبة جداً. واكثر ما يأسف له الجنرال ما يلقى يومياً من تهم وافتراءات على العهد. “يكفي انني ورثت تركة الدين المعلوم اصله وفصله”. يتحدث العماد عون. “الآن اصبحت انا المسؤول عن هذه الكارثة”. يدرك الجنرال جيدًا ان ما يحصل مخطط ومدروس وتترجمه جهات سياسية وقنوات ووسائل اعلامية لديها دور يبدأ باستهداف العهد ولا يتوقف عند ما يصفه الرئيس عون بالاغتيال المعنوي للشخصية كما يحصل مع الوزير باسيل.

بالسؤال عن الملف الحكومي يبدو الرئيس عون متحفظًا للغاية.يرفض التوصيف عبر استخدام مصطلح ان الجو مع الرئيس ميقاتي ايجابي او سلبي، ويكتفي بالقول انه يبادل الايجابية بمثلها.

ومع الاستفاضة بالنقاش تلمس قناعة لدى سيد القصر، بأن القضية ابعد من حصص حكومية وخلافات سياسية، بل فتش عن التدقيق الجنائي. ربما اذا دُفن تسهل كل الأمور.

ويتابع الرئيس عون: أنا لا ابحث عن مجد شخصي بقضية التدقيق الجنائي، همي مصلحة الناس، فمن سرقت اموالهم من حقهم ان يعرفوا الحقيقة.

وعند الغوص بالنقاش بالخيارات الاستراتيجية التي اتخذها الرئيس عون منذ توليه الرئاسة، يشرح بعمق الفرق بين الموقع السياسي الذي كان يمثله عندما كان في الرابية وموقعه في الرئاسة حالياً، بما يعنيه من كونه حكمًا ومحايدًا، الا حين يُرتكب الخطأ فهو لا يساير بالحق.

“فليقولوا ما يشاؤون عن العهد. أعلم انني قضيت على الارهاب وحميت الحدود، واعلم انني انجزت اول انتخابات وفق قانون النسبية لاول مرة في لبنان وحققت اقتراع المغتربين المنسيين سابقاً الا من دفع الاموال، وفرضت انتظاماً مالياً بعد اكثر من عقد من إنفاق بلا موازنة. لقد جمعت ولم افرق. اين كان التوتر السني الشيعي حين توليت الرئاسة واين اصبح اليوم؟ فعلت ما يمليه عليّ ضميري، وحيث يجب ان اعطي الموقف افعل دون تردد. وآخر محطة ما سمعه مني وفد الكونغرس الاميركي..”.

لكن ماذا عن باخرة المحروقات الايرانية؟ يبتسم ملياً ويرد بجملة اسئلة لعلها تؤكد عدم المسؤولية الرسمية عما يجري: “يقولون انها ستصل قريبًا. ننتظر لنعرف اين سترسو وكيف سيتم التخزين والتوزيع. اسئلة كثيرة لا نعلم اجوبتها”. يرد احد الحاضرين مازحًا: فلتخزن في مخازن الصقر.

وهنا يبدي الرئيس عون استغرابه من اداء الاعلام الذي لا يتابع القضايا التي تستحق المتابعة، ما يضطره الى اصدار بيانات ومواقف كما حصل منذ ايام حين طالب بضرورة اعتماد الشفافية بقضية مصادرة المحروقات المحتكرة.

تتشعب المواضيع بالحديث مع الرئيس عون. يسيطر الهدوء مع ابتسامة وذاكرة حادة في استرجاع لمحطات ومواقف تشرَح بدقة المشهد السياسي.

كنت انظر مليًا الى وجه لا يبدو انه يعرف التعب. بالمواجهة يبدو شابًا ابن عشرين، وبالحكمة يستكين الى خلاصة تجارب خاضها ولا يزال ابن ٨٥ عامًا. الثابت كثير من التواضع والتخفف من مظاهر الثراء والفحش اللصيقين للاسف بغالبية اصحاب السلطة في لبنان.

فعلًا لم تبدل الرئاسة العماد عون. لقد تم تطويعها جيدًا لتحاكي خصائص جنرال الرابية. هي الشخصية ما يعطي الموقع لا العكس، ومخطىء بشدة من يراهن على تعب ومهادنة او تراجع واستسلام من قبَل جنرال قال يومًا: يستطيع العالم ان يسحقني لكنه لن يأخذ توقيعي.

الناشر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى